لقد تم بناء مجتمعنا على فكرتي الاستغلال والعنف في كل مكان، في الشقوق والطوب وفينا نحن الناجون من العنف أيضًا، وتبدو آثار العيش في عالم كهذا بصراحة فوضى من الأذى والصدمات النفسية؛ وعلى الرغم من الأذى الذي تسببه محاولات النجاة منها فإنها تكون مليئة بالفرح والحب والتناقض؛ إن ما سبق من فوضى يعتبر أساس المسلسل الدرامي الذي قدمته ميكايلا كول في قد أُدمرك/ I May Destroy You عبر BBC بالإضافة لشبكتي HBO وHBO MAX الشقيقتين، وقامت كول بكتابة وإخراج قد أُدمرك المكوّن من 12 حلقة، إضافة لتأديتها دور البطولة عبر شخصية أرابيلا.
يروي المسلسل وفقًا لمراجعة الكاتبة نيكول فوريو في موقع بيتش ميديا الإعلامي، قصة امرأة تعرضت للاغتصاب بعد تخديرها أثناء قضائها ليلة في أحد نوادي الرقص مع أصدقائها، حيثُ ينطلق قد أُدمرك على طريق الألم والاكتشاف مقدمًا مزيجًا بين الحاضر والماضي في محاولة إعادة بناء كول للعنف الذي كان سبب معاناتها، وما خلفه الاعتداء من آثار نفسية عليها، مقدمةً استكشافًا لثقافة الاغتصاب التي تميل فيها إلى المناطق الرمادية، المتمثلة بانتشار الثقافة مع تصويرها غير المكتمل للضحية.
تؤدي كول شخصية أرابيلا، وهي كاتبة بريطانية سوداء من جيل الألفية الجديدة في بداية مسيرتها المهنية التي نالت بسببها شهرة على وسائل التواصل الاجتماعي بعد فقدانها شيئًا منها في الحياة، وهي تكافح للانتهاء من مسودة كتابها الثاني، برفقة البحث عن الحب والحنان من صديقها تاجر المخدرات الإيطالي المزاجي غير المتاح عاطفيًا، ويعتبر القص السردي للمسلسل جزء من سيرة كول (32 عامًا) الذاتية، بتصويرها للاعتداء عليها وما شابه من عواقب واجهتها عندما كانت في بداية صعودها كنجمة مع مسلسلها الأول لبّان ممضوغ/ Chewing Gum على نتفليكس، ومثل أرابيلا كانت تسهر كل ليلة قبل الانتهاء من الموعد النهائي لتسليم كتابها، ومثل أرابيلا أيضًا كانت تلتقي بأصدقائها في إحدى الحانات عندما أضيف مخدر لشرابها.
يؤسس مسلسل قد أُدمرك منذ البداية إلى أن أرابيلا واحدة من ضحايا الاعتداء الجنسي التي اعتدنا الشك بصدقها
منذ البداية يؤسس قد أُدمرك إلى أن أرابيلا واحدة من ضحايا الاعتداء الجنسي التي اعتدنا الشك بصدقها، إضافة لإلقاء اللوم عليها بحصول الاعتداء، وذلك اللوم يأتي بعد رؤيتها تثمل وترقص وتستنشق الكوكايين – المحظور عالميًا – قبل وقوع الاعتداء، وهو ما يجعلنا نفهم بالضبط كيف سيتم استخدام تلك الأفعال ضدها، وهو أيضًا الأمر الذي حصل في الواقع عندما أخبرت صديقها الإيطالي عن الاعتداء، والذي نشاهده كيف ألقى باللوم عليها بسبب عدم انتباهها لكمية المشروبات الروحية التي تناولتها.
تكمن إحدى أقوى نقاط المسلسل في تصويره لفترة الاعتداء الجنسي بين حصول الاعتداء من زاوية، وإدارك حدوث الاعتداء من زاوية أخرى، مع استمرار ظهور فقط أجزاء من الصورة، إذ تحاول أرابيلا التصالح مع رواية أن الاعتداء الذي تعرضت له كان مجرد وهم نابع من عقلها بسبب مشاهدتها مقاطع فيديو حول الصور الكاذبة على منصة يوتيوب؛ فقد استخدم علماء النفس ظاهرة متلازمة الذاكرة الكاذبة لعقود لتشويه سمعة الناجين من الاعتداء الجنسي على الرغم من عدم حصولهم على دعم من منظمات التشخيص مثل جمعية علم النفس الأمريكية.
ولكن للحقيقة فإن أرابيلا، في البداية على الأقل، تجد الراحة في إمكانية تعرضها للخداع من قبل عقلها، وهو الأمر الذي يُظهر مدى تعقيد صدمة الاغتصاب، وهو ما يفعله قد أُدمرك الذي يلتقط الارتباك الناجم عن علاج ما بعد الاعتداء باسترجاعها الهوس بليلة حصول الاعتداء، وتقوم باستجواب صديقها – الذكر – الذي طلبت منه مراقبتها للحيلولة دون جعلها تثمل من أجل الانتهاء من الكتابة، وفي النهاية تقرر الذهاب إلى الشرطة عندما يصبح الاعتداء حقيقة لا يمكن إنكارها.
تعتبر أرابيلا أن وقوع الاعتداء حقيقة أُخذت على محمل الجد على الفور عندما قدمت تقريرًا إلى محققات الشرطة، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة لسرد القصة، نظرًا لأن مجرد الاستماع دون شكوك لا تزال تجربة غير شائعة بين الناجيات والناجين من الاعتداء الجنسي، أما بالنسبة لأرابيلا فإنه من الواضح أن هذا التحقق من صحة وقوع الاعتداء يعزز تصميمها على معرفة الحقيقة حول تلك الليلة، كما أنه يحدد المساحات الرمادية لتي يستكشفها العرض لاحقًا.
يوضح هذا المثال من عدم الموافقة الواضحة التي يكافح المسلسل وهو يكتشفها مع انتهاكات الحدود التي قد يكون التعرّف عليها بشكل أقل على أنها اعتداء جنسي؛ حيثُ لا تزال هناك فجوة بين الاغتصاب المخترق وخيط قصير من العنف الجنسي الذي لا يتوافق مع هذا التعريف، على سبيل المثال، فإن أول لقاء جنسي لأرابيلا بعد الاغتصاب كان مع كاران جيل الذي يؤدي شخصية زاين، وهو شريك أرابيلا في الكتابة بتكليف من وكلائها الناشرين لمساعدتها على إنهاء مسودة كتابها، ويقوم بممارسة الجنس معها بموافقة منها إلى أن يقوم دون إعلامها بعدم ارتداء الواقي الذكري رغم إصرارها عليه لاستخدامه.
كذلك، يتعرض بابا إيسيدو الذي يؤدي شخصية كوامي أحد أصدقاء أرابيلا المقربين للاعتداء بعد ممارسة الجنس بالتراضي مع رجل التقى به على تطبيق جريندر للتواصل الاجتماعي الخاص بالكويريين، وعلى الرغم من تأثره بالعنف بشكل فوري، فإنه منح نفسه عدة أيام لوصف ما تعرض له بأنه اعتداء قبل أن يقوم بمحاولة الإبلاغ عنه؛ وخلال استرجاع أرابيلا لذكريات حدثت في إيطاليا قبل ثلاثة أشهر من تعرضها للاعتداء، تمارس صديقة أرابيلا المقربة ويروشي أوبيا التي تؤدي شخصية تيري علاقة جنسية ثلاثية مع رجلين يقدمان أنفسهما على أنهم غرباء لا يعرفان بعضهما البعض.
تكمن إحدى أقوى نقاط المسلسل في تصويره لفترة الاعتداء الجنسي بين حصول الاعتداء من زاوية، وإدارك حدوث الاعتداء من زاوية أخرى، مع استمرار ظهور فقط أجزاء من الصورة
نكتشف من خلال الحوادث السابقة بأن الاعتداء الجنسي يحدث على نطاق واسع، حيثُ تدرك كول في قصتها أن الكذب والغش يمكن أن يكونا ضارين كالاعتداءات الجنسية العلنية، فهي في العالم الذي تقوم ببنائه تتشابك متعة الحرية الجنسية مع الجنس ذاته داخل التهديدات المحتملة الحدوث، هكذا يوضح قد أُدمرك كيفية عدم فاعلية تعريف موافقة الممارسة الجنسية التي تعتمد على الثنائيات المتضادة نعم/لا، وكذلك أيضًا الجاني/الضحية، حيثُ تعيد كل حلقة من حلقات المسلسل الحكمة التقليدية البسيطة المرتبطة بممارسة الجنس بالتراضي.
نرى في البداية زاين كما تراه أرابيلًا، ساحرًا وجذابًا، حيثُ أنه لا يبدو مثل وحشية المغتصب الذي يظهر في ذاكرتها وعقلها بشكل منتظم؛ تقوم أرابيلا بالترحيب بزاين للقدوم إلى سريرها، وهي تبدو هنا على استعداد لتطوير علاقتها معه إلى مستوى العلاقة العاطفية إلى أن تدرك أن ما فعله يسمى أيضًا: اعتداء، ويحدث هذا التأخير في فهم جزئية إزالة الواقي الذكري بدون إخبار الشريك، والتي يطلق عليها الأشخاص الذين يقومون بذلك مسمى “التخفي”، وهي تتم في ظل تجاهل وسائل الإعلام السائدة لهذه الاعتداءات باعتبارها “توجهًا جنسيًا” لا انتهاك واضح للحدود.
وحتى أرابيلا ذاتها نجدها مذنبة في إحدى الحلقات بتجاوزها لهذه الحدود أثناء محاولتها معالجة آلام الاعتداء الجنسي النفسية، فهي عندما تسافر إلى إيطاليا دون إخبار حبيبها الإيطالي بقدومها، تقوم بانتظاره داخل شقته بعد دخولها إليها دون إعلامه أو أخذ أذنه بالدخول إلى منزله، لكن كول تصر في قصتها على مواجهة وتعقيد الرواية لتوضح أنه لا يوجد شيء آخر مرتبط بالعنف الجنسي.
تقول كول في مقابلة بودكاست أجرتها مع برنامج الإيكونوميست تسأل إن زيادة الشعور بتحملها مسؤولية تعرضها للاعتداء كان واحدًا من الأجزاء التي استخدمتها للشفاء من الاعتداء، وفي سياق ذلك على سبيل المثال لا الحصر، أن تكون أكثر يقظة في مراقبة كمية المشروبات الروحية التي تتناولها، فقد كانت كول تتحدث في البودكاست حول تجربتها الخاصة، ولكن كان صدى كلماتها يتردد بإلقاء اللوم على الضحية التي منعت ضحايا الاغتصاب من الشكوى، مما سمح للمتهمين بالاعتداء الجنسي بالإفلات من فعلتهم.
ويظهر هذا الإفلات على على أنه موقف من خلال تقليصه لحجم المشكلة الأساسية للاعتداء الجنسي إلى قائمة من الأشياء التي كان ينبغي على ضحايا الاعتداء الجنسي فعلها، حيثُ يقلل قد أُدمرك في نهاية المطاف من حجم الاعتراف بحقائق موافقة الممارسة الجنسية المعقّدة والفوضوية، كما أنه يقوم في أماكن أخرى بتجنّب إبراز هذا الفارق الدقيق في تصويره للعنف الجنسي ضد الرجال، كما نرى مع كوامي الذي يقوم بالبحث عن شريك جنسي يكون “آمنًا” بالنسبة له، وذلك بعد تعرضه للاعتداء من قبل رجل كويري، لكنه عندما يلتقي بامرأة بيضاء غير كويرية يكتشف أن لديها رهاب الكويريين.
تركز هذه الحلقة على ما إذا كان كوامي ذاته مذنبًا من خلال اعتدائه جنسيًا على المرأة عبر خداعها متجنبًا إخبارها بعدم ممارسته الجنس من قبل، ولكنه بدلًا من ذلك يترك فارقًا للقوة العرقية غير المستكشفة، تقوم المرأة البيضاء الشريكة الجنسية لكوامي بأخذ زمام المبادرة في تفاعلهما معًا، غير أنه بمجرد اعتذاره منها لعدم صدقه معها منذ البداية تقوم بوصفه بـ”المفترس”.
حتى أن تجربة إبلاغ كوامي عن تعرضه للاعتداء تختلف عن تجربة أرابيلا، وتظهر في حديث كوامي عن تعرضه للاعتداء مع الضابط الذي لا يكلف نفسه عناء إخفاء عدم ثقته برواية كوامي، إضافة لطرحه أسئلة تبدو عدائية وتحمل كراهية اتجاه الكويريين، وتؤكد قصة كوامي على وجود الفروق من الناحية الاجتماعية، حيثُ أنه لا يزال هناك عدم معرفة بكيفية التعامل مع الرجال السود والكويريين الذين يكونون ضحايا للاعتداء الجنسي لأنه غالبًا ما يكون الافتراض بأنهم مرتكبيها، حتى أثناء محاولتهم البحث عن الأمان والشفاء من الاعتداء، لذا نرى بأن الشعور في قصة كوامي مستعجلًا، ولا يوجد حل له، وهو ما يعكس القيود الثنائية المفروضة على الضحية/الجاني معًا.
يبيّن عنوان المسلسل حقيقة نتجاهلها في واقعنا الجنسي في كثير من الأحيان، وتكون من خلال دعوة شخص ما إلى داخل عالمنا الحميمي، ونقوم بالسماح له بلمسنا ورؤيتنا وأن يكون معنا شريكًا جنسيًا، وهو ما يجعلنا نعرض أنفسنا للدمار؛ تقوم كول في الحلقة الأخيرة المعنونة بـ”موت الأنا” بإيضاح الاحتمالات التي قد تجدها خاتمة للقصة. تقول أرابيلا إنها تعرّفت على الرجل الذي اعتدى عليها، وذلك بعد أيام من ذهابها المستمر إلى الحانة التي تعرضت فيها للاعتداء.
تقول ميكايلا كول في مقابلة بودكاست إن زيادة الشعور بتحملها مسؤولية تعرضها للاعتداء كان واحدًا من الأجزاء التي استخدمتها للشفاء من الاعتداء
وبمجرد أن تقول ذلك أرابيلا فإننا نتبيّن وجود ثلاثة نهايات مختلفة في واقع يتجزأ إلى: قتل الرجل الذي اعتدى عليها، أو اعتقاله، أو ترتيب لقاء جنسي بين أرابيلا ومغتصبها يكون بالتراضي، لذا فإن القصة هي وسيلة للتساؤل بشأن ما الذي علينا فعله للشفاء من صدمة الاعتداء الجنسي؟ هل هو القصاص العنيف من الجاني؟ أم الثقة في نظام العدالة الجنائية؟ أم نقوم بإعادة كتابة ما حصل من ممارسة جنسية بدون التراضي بتحويلها إلى ممارسة تمت بالتراضي؟
في الاحتمال الرابع والأخير – وهو الواقع الذي يبقى ثابتًا لنا – لا تقوم أرابيلا بالذهاب إلى النادي الذي تعرّضت فيه للاعتداء أملًا بالعثور على الجاني، إنما تبقى في شقتها التي تتشاركها مع صديقتها لمشاهدة الرسوم المتحركة العلمية، إذ أنها تقوم بفعل الشيء الوحيد الذي يمكنها القيام به، وهو أن تمضي قدمًا؛ وفي حال كانت نهاية قد أُدمرك مخيبة للآمال، فإن ذلك سببه انعكاس انفتاح الواقع في كثير من الأحيان على أنها ناجية، حتى أنه عندما نكتشف من قام بالاعتداء علينا، أو نعرف لماذا قاموا بالاعتداء، وحتى لماذا اخترنا كأهداف لهم في المقام الأول، فإن ذلك لن يغيّر من الحقيقة المتمثلة بالمعاناة من العنف الجنسي، وما ستتركه صدمة وقوع الاعتداء يوميًا في عالم لا يهتم بتحقيق العدالة للناجيات والناجين من الاعتداء.
نهاية، فإن استعداد أرابيلا للمضي قدمًا في حياتها لا يمكن اعتباره على أنها “تركت الأمر جانبًا ومضت قدمًا”، كما أن العديد من الناجيات والناجين من الاعتداء الجنسي ينصحون بالإبلاغ عنه، حتى أنه يبرز كجزء من حساب لواقع الأنظمة السياسية التي تقوم بحمايتنا بعد تدميرنا بسبب وقوع الاعتداء، وكذلك إدارك أنه علينا ترميم حياتنا بغض النظر عمّا إذا كانت هذه العدالة متاحة لنا.