يبني مسلسل الخيال العلمي الفضاء الواسع/ The Expanse قصته على سلسلة الروايات المصورة التي تحمل العنوان عينه من كتابة فريق جيمس أس كوري، المكون من الكاتبيّن الشهيريّن دانييل أبراهام وتاي فرانك، والتي تدور بعد مائتي عام من الآن عندما يحول البشر النظام الشمسي إلى مستعمرة، وتنتقل معه الحروب من الأرض إلى حزام الكويكبات، في عالم لا يختلف عن الصراعات التي يعيشها عالمنا المعاصر إلا من ناحية الأحداث التي تدور في فلك أعمال أوبرا الفضاء.
إن أكثر ما يميز الفضاء الواسع الذي انتهت شبكة أمازون برايم الرقمية من عرض موسمه الخامس في فبراير/شباط الماضي، هو حصوله على تعليقات إيجابية من غالبية الناقدات والنقاد بنسبة تتجاوز 90 بالمائة، منذ إطلاقه لأول مرة عبر شبكة SYFY للخيال العلمي الأمريكية في مواسمه الثلاثة الأولى، قبل أن يتحول إنتاجه لصالح شبكة أمازون برايم منذ الموسم الرابع.
لا تقف أهمية الفضاء الواسع على المؤثرات البصرية والصوتية التي اشتغل عليها صُناع العمل لتتناسب مع اكتشافات البشرية بانتقالها من الأرض إلى المجرة في المستقبل البعيد، بل تمتد أهميته إلى أنه عمل سياسي بامتياز، نظرًا لما يحتويه من ألغازٍ وصراعات سياسية وطبقية شبيهة بما نعيشه اليوم، لكنها متقدمة عن تاريخنا حتى القرن الـ23 عندما استوطن البشر النظام الشمسي.
في الفضاء الواسع تصبح الأمم المتحدة مسؤولة عن الأرض، والمريخ قوة عسكرية مستقلة، وصار الهواء والماء أغلى ثمنًا من الذهب
في الفضاء الواسع تصبح الأمم المتحدة مسؤولة عن الأرض، والمريخ قوة عسكرية مستقلة، وصار الهواء والماء أغلى ثمنًا من الذهب، في مقابل اكتشافهم لموارد جديدة في حزام الكويكبات أو (الحزام)، وفيروسات غامضة تضرب الحزام، وضباط شرطة فاسدون، يرافق ذلك حركة مقاومة نشطة وصراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، بما معناه أننا أمام نسخة متخيّلة أكثر سوداوية عن مستقبل البشرية والتكنولوجيا.
الفضاء الواسع.. حروب البشرية من الأرض إلى الفضاء
لا تختلف المراجعات التي قدمها الناقد السينمائي غريغ ويلر للمواسم الأربعة من أوبرا الفضاء عن غالبية المراجعات التي أشادت بملحمة الخيال العلمي، وتدخل في سياق السرد المحكم للحلقات الأولى، فهو يشير إلى أن القصة كُتبت “بذكاء رائع مع التركيز على التفاصيل” الصغيرة، إذ أنه على الرغم من انتقال القصة بين ثلاثة مواقع مختلفة، ووجود الكثير من الشخصيات، فإن هذا الانتقال منح المسلسل تنوعًا أبعده عن أن يكون “مملًا أو باهتًا”.
ويرى ويلر أن الفضاء الواسع يعطي لمحة عن مستقبل البشرية التي نجحت بعد مائتي عام من توسيع نفوذها إلى ما وراء الأرض عندما قام البشر ببناء المستوطنات على المريخ والحزام، وهو ما كان من الممكن أن يتخلل حلقات المسلسل الكثير من التعقيد والفوضى، بسبب انتقال المشاهد بين المواقع الثلاثة، إلا أن الفصل بين المواقع والشخصيات بيّن في الحلقات المعروضة أن لدى الغالبية أجنداتهم الخاصة، وانجذابهم للمؤامرة المركزية المرتبطة بالتوترات المتزايدة بين الأرض والمريخ مهددةً باندلاع حرب محتملة بينهما.
ولعل أكثر ما يميز الفضاء الواسع – بحسب ما يرى ويلر دائمًا – أنه يمنح المُشاهدات والمُشاهدين فرصة لاستشراف مستقبل البشرية، وهو ما يظهر لنا في أفعال وأحاديث سكان المريخ الذين يختلفون بذلك عن سكان الأرض، وكذلك الأمر مع التكنولوجيا المتطورة عبر النظام الشمسي مما يجعل الجميع يشعر بالألفة والغرابة في الوقت نفسه، وعلى الرغم من إشادته بالحوار المكتوب للشخصيات وصولًا للتفاصيل الغنية عن النظام السياسي القائم، فإنه لا يخفي وجود صعوبة في بعض المشاهد أحيانًا، كما الحال مع الشخصيات عندما تناقش الأحداث فيما بينها.
لا يخفي ويلر في مراجعته للمواسم الأربعة أن الفضاء الواسع يعتبر واحدًا من مسلسلات الخيال العلمي الصعبة، لما يفرض على المُشاهدات والمُشاهدين متابعة الحلقات بقدر كبير من التركيز المكثف لمعرفة الفوارق والعلاقات المعقدة التي تنشأ بين الفصائل المتحاربة، وهو ما يؤكد عليه الناقدات والنقاد بإشارتهم في المراجعات لأهمية الحلقتين الأولى والثانية لما تقدمهما من لمحة موجزة ومكثفة عن الأحداث، والشخصيات التي ظهرت دوافعها وأفعالها الواقعية في المسلسل، إضافة للمشاهد التي تنتقل بين الشخصيات والمواقع المختلفة في النظام الشمسي.
البيتلر.. مستقبل البشرية كـ”مواطنين”
مقارنةً مع غالبية المراجعات التي قدمت للفضاء الواسع بإيجابية، تخصص الكاتبة ديبوبريّا دوتا في مراجعتها مساحةً واسعة للحديث عن البيلتر/ Belters المواطنات والمواطنين الذين ولدوا داخل الحزام، في حين يمكن التعرف على المزيد من تفاصيل المواسم الثلاثة الأولى، عبر الاطلاع على مراجعة الصحفي المتخصص في علوم التكنولوجيا والفضاء سكوت سنودن المنشورة في موقع space الإلكتروني، علمًا أن المراجعة تحتوي على حرق لأحداث المواسم.
تقدم دوتا في مقدمة مراجعتها ملخصًا سريعًا لقصة الفضاء الواسع، حيث يبدأ الموسم الأول بتقلص مساحة الأرض بعد تحولها إلى أرض قاحلة مكتظة بالسكان تحكمها الأمم المتحدة، بينما المريخ في طريقه لأن يصبح قوة عسكرية هائلة بهدف إعادة تأهيل الكوكب كاملًا، في حين تحفز المقاومة معظم الفصائل للحصول على السلطة والموارد، تزامنًا مع تصاعد حملة القمع ضد من يصنفون على أنهم عاجزين وسط الفقر المدقع، مما يظهر حجم التفاوت في الثروة والمكائد السياسية باعتبارهما أساسيان في سياق المسلسل.
ويكشف السرد الدرامي للفضاء الواسع عن عمقه من خلال البيئات الثقافية المتنوعة، والتي تتشكل بناءً على دوافع وهويات الشخصيات في النهاية، حيثُ يبرز من بين هذه الفصائل المتحاربة والقوية البيتلر الذين يقيمون في الحزام بين المريخ والمشتري أو الكواكب خارج المجموعة الشمسية، ويعملون في تعدين الموارد لسكان الأرض والمريخ، وهم يقابلون المواطنات والمواطنين في عالمنا المعاصر.
يُجبر البيتلر على أن يكونوا من الطبقة العاملة، وتتم معاملتهم بتميز مع النظر إليهم بازدراء، إذ يجري تصنيف البيتلر على أنهم من الدرجة الثانية متسلقين من أجل البقاء على قيد الحياة، على عكس ما يبدو وفيرًا لأولئك المتواجدين على الأرض والمريخ، وتشير دوتا إلى أنه من أجل فهم البناء العالمي للفضاء الواسع بشكل أفضل، يجب النظر أكثر في هوية وأصل وهدف البيتلر، وما يمثلونه داخل العالم الكلي للعرض.
إذ يشار إلى البيتلر بـالنحيلين، وهو مصطلح يستخدم في الفضاء الواسع لـ”تحقيرهم”، وبمراجعة خصائصهم الفيزيائية، فالبيتلر قوة عاملة يتم استغلالها للتنقيب عن الموارد الثمينة، وبشكل أساسي التنقيب عن الجليد في الحزام، في مقابل حصولهم على مستوى محدود من الغذاء تقديرًا لجهودهم مما يظهرهم غارقين غالبًا في ظروف الحياة.
تبدأ الحلقة الأولى من الموسم الأول بمشهد لواعظ شوارع تصفه دوتا بأنه “حزين”، يكون الواعظ واقفًا أمام حشد من البيتلر يشرح كيف أن محطة الفضاء سيريس ليست إلا عبارة عن منجم ذهب للموارد الطبيعية، لكن رغم ذلك فإن المتواجدين داخل الحزام محرومين من كافة وسائل المساعدة الأساسيةـ، بما في ذلك الماء والهواء، نظرًا لأنهما من العناصر الأساسية التي تقوم عليها قصة المسلسل، وتظهر أهميتهما في الحلقات تباعًا بسبب عدم المساواة في توزيع الثروة، في طريقة مشابهة للرأسمالية الحديثة.
تقول دوتا إنه منذ بداية المسلسل الثابت أصبح يُنظر للبيتلر على أنهم الآخر، وأنهم شخصيات منحرفة عن الجنس البشري بشكل عام، نظرًا لعلم وظائف الأعضاء نتيجة مستويات الجاذبية المنخفضة داخل الحزام، إذ على سبيل المثال يبلغ طول البيتلر ما بين 2 – 2.5 مترًا، وهم يمكلون بنية عظام هشة، فيما يعاني بعض الأطفال المولودين داخل الحزام من تشوهات وراثية قاتلة.
التقسيم الطبقي في الفضاء الواسع ساعد على فهم منظور مرحلة ما بعد الاستعمار
ويؤكد البيتلر هويتهم من خلال وشم متقن يقومون بصناعته على أجسادهم، كما أنهم ينشؤون شكلًا خاصًا من أشكال التواصل فيما بينهم، وهو مزيج من اللغة البسيطة المهجنة، والإيماءات الجسدية المميزة لهم، وتشير دوتا فيما يخص اللغة الخاصة بالبيتلر إلى أنه غالبًا ما كانت اللغة تشكل حياةً خاصة في الأعمال الأدبية، ويمكن الاستدلال على ذلك على سبيل المثال لا الحصر من خلال لغة الفاليريان في مسلسل لعبة العروش/ Game of Thrones، ولغة كلينغون في أفلام ستار تريك/Star trek.
وتوضح دوتا في مراجعتها بأن الشيء نفسه ينطبق على لغة البيتلر المهجنة، والتي عمل على تأليفها لأجل المسلسل العالم اللغوي نيك فارمر، مستمدًا كلماتها من ثقافات متعددة، بما ذلك اللغات الصينية والفارسية والعبرية، فاللغة بالنسبة للبيتلر تعتبر من القواعد الصلبة لهويتهم، حيثُ تقوم بتوحيدهم وتفريقهم في الوقت نفسه، من حيثُ أنه حتى لو نجحوا في الإقامة على الكواكب الداخلية، فإنه سيتم إخضاعهم للمراقبة المفرطة، وإبقاء تمثيلهم ناقصًا مع تعرضهم للمضايقات من قبل سلطات الكواكب.
تختم دوتا مراجعتها مشيرةً إلى أن التقسيم الطبقي في الفضاء الواسع ساعد على فهم منظور مرحلة ما بعد الاستعمار، حيثُ يكون الحزام شبيهًا بحالة ريعية مرتبطة بين الأرض والمريخ، بينما يصنف كوكب سيريس على أنه نقطة اتصال بارزة لاستخراج الموارد، على الرغم من عدم استثمارها للحد الأدنى من رأس المال لتحسين الظروف المعيشية للبيتلر، فيما تعيش غالبية الطبقة العاملة في فقر مدقع، أما النخب فإنها تحصل على الهواء النقي والمياه العذبة وزقزقة العصافير.