حكاية الشبح التي تبحث عن نفسها في مسلسل “فاطمة”

بورجو بيريجيك

وصفت بعض المراجعات الهوليودية النمطية مسلسل فاطمة/Fatma التركي من إنتاج أعمال نتفليكس الأصلية بأنه دراما تتحدث عن حالة انتقام، وقارنت مدى تشويق العمل قياسًا بأعمال أخرى تصنَّف ضمن الخانة ذاتها، ورغم أن قواعد الإنتاج العالمية تلزمنا بالتصنيف كجزء أساسي من عملية التسويق، لكنّي اعتقد أن الدخول إلى أي عمل فني من بوابة هذه التصنيفات، يجعلنا لا نرى الكثير من جوانبه، فإن أردت مسخ عمل ما أو كتاب ما صنّفه بكلمتين، لكننا مع فاطمة نحن أمام حكاية قاتلة، تذكرنا بقاتل باتريك زوسكيند الباحث عن رائحته.

فاطمة تبحث عن شخصيتها الممسوحة، إنها القاتلة التي نحبها ونتعاطف معها، ليس على طريقة تعاطفنا مع والتر وايت (يؤدي الشخصية بريان كرانستون) في اختلال ضال/ Breaking Bad، الذي يبدو أن تهديده بالموت جعله يتخطى جبنه، ويطلق كل طاقاته الكامنة ليمتلك القوة والسلطة ويستمتع بهما، في حالة فاطمة نحن أمام شخصية تبدو عديمة القدرات والميزات، ففاطمة تعمل في التنظيف، ولم تحصل على تعليمٍ جيد، ملامح البؤس تغطي وجهها، ولدى كلامها تبدأ متلعثمة دومًا، لكنها تختلف عن بؤساء فيكتور هوغو.

تبدو فاطمة في المسلسل أشبه بفرد وحيد بائس، وحتى من يحيطون بها في أحياء البؤس يبدون متواطئين على بؤسها، ويظهر معطفها الطويل وغطاء رأسها وثوبها الفقير علامة مميزة لها، تجعلها تبدو كلما ابتعدت الكاميرا عن وجهها ونقلت لنا تنقلاتها وخطواتها أشبه بشبح؛ نعم فاطمة شبح لا يراها أحد، لا يكترث بها أحد، وحين تتحدث لا يرنو إلى حديثها أحد، كما لو أنها تثرثر، حتى شقيقتها التي تربّت معها وخبِرَت معها آلام طفولتها لا تجيد الإصغاء إليها، ولأنها شخصية غير مرئية أشبه بشبح، تتمكن من ارتكاب أكثر من جريمة قتل شبه كاملة لا بحنكتها العالية بل لأنها شخصية لا يلاحظ مرورها أحد.

تتمكن فاطمة من ارتكاب أكثر من جريمة قتل شبه كاملة لا بحنكتها العالية بل لأنها لأنها شخصية غير مرئية أشبه بشبح لا يلاحظ مرورها أحد.

هذا الشبح هو أيضًا شبح من الماضي، حيث تكشف لنا لقطات الفلاش باك المشتّتة، تعرُّضها لاعتداءٍ في طفولتها، وكلما اقتربت الكاميرا من وجهها، اكتشفنا أن هذا الشبح تحمل كثيرًا من المشاعر في وجهها والتماعات عينيها، ولون جلدها ومساماته، لكن لا أحد يكلف نفسه عناء التمعّن قليلًا في وجهها، ففاطمة تشبه أشخاصًا نصادفهم في حياتنا اليومية لكنهم كومبارس الحياة، لا نراهم، ولا نكترث بمشاعرهم، وننمّطهم وكأنهم بشر فائضون عن الحاجة، وتبدو حبكة السيناريست والمخرج الذكية، في أن شيئًا من العدالة يتحقق لهؤلاء الكومبارس المهمشين، ففاطمة تصبح محور العمل برمّته، وكل القصة تبنى من منظورها الشخصي.

لهذا السبب نرى مثلًا أن جميع الرجال في العمل ذكور سيئون، فهذه الشبح فاطمة لا يلتفت إليها أي رجل إلا المنحرفين من محيطها الشعبي لاستغلالها جنسيًا، أو زعيم مافيوي يريد الاستفادة من أنها شخصية مهمشة لا يشك بها أحد مما يساعدها على مغادرة مسرح الجريمة دون أن تلفت الأنظار إليها، وحده الكاتب الروائي الذي تعمل فاطمة في تنظيف بيته يحاول كتابة حكايتها، لكن حتى هذا الكاتب لا يعرف الكثير عن فاطمة فهو لا يمكن أن يتصور أنها قد تكون قاتلة، كما أنه يظهر الكاتب في أحد المشاهد وهو يتابع برنامجًا تلفزيونيًا عن الجريمة يعرض قصة أم مع ابنتها المراهقة تتحدثنّ عن الزوج/الأب المقتول، يسأل الكاتب فاطمة: “برأيك من هو القاتل؟”، تجيب فاطمة وهي تتابع التنظيف: “الابنة هي من قتلت أباها”؛ يصعق الكاتب حين يتبيّن له أن فاطمة محقة، وعندما يسألها كيف عرفت أنها القاتلة لا يحصل على إجابة منها، فاطمة هي أيضًا إحدى الناجيات من حالة اعتداء، وربما لا تملك ذكاءً تحليليًا أو إبداعيًا لكنها تملك ذكاءً عاطفيًا لا يمتلكه الكاتب الذي امتهن رواية حياة البشر! كما أنها بحسها الغريزي الفطري تدرك من نظرات الابنة أن أباها كان يعتدي عليها لذلك قتلته.

تبدو فاطمة أمًا متفانية مع طفلها المصاب بالتوحّد الذي فقدته في حادث سير، تظهر لطيفة في التعامل مع طفلة في أحد البيوت التي تعمل فيها، والمفارقة أن هذه الطفلة هي الوحيدة التي تميز فاطمة حين تظهر على التلفاز في مشهد سجلته كاميرا مراقبة وهي تقتل رجلًا، تسأل الطفلة: “فاطمة، هل قتلت أنت الرجل!”. فالأطفال لم يتشرّبوا بعد التمييز ولم يدخلوا في هرميّة النظام الاجتماعي الذي نستبطنه نفسيًا لدرجة أننا نرى البشر من مرآة ذاتنا، فليس من المستغرب أن تصبح فاطمة شبحًا، وليس من المستغرب أن آدمية هذا الشبح لا تتحقق إلا مع الأطفال.

من ناحية السينماتوغرافي كان العمل موفقًا، وتميز أسلوب التصوير بتنقل ناجح بين اللقطات القريبة والبعيدة، ونجد أن كثيرًا من اللقطات تؤسس أولًا بلقطة علوية، تعرفنا بالمكان، ثم ننتقل إلى لقطة أمامية أو خلفية لفاطمة وهي تسير، فنرى المشهد أولًا كمحايدين ثم نراه من منظور فاطمة التي تغوص فيه ثم تأتي لقطات الوجه القريبة التي تروي مشاعر فاطمة بصريًا، وتظهر القدرات الفنية العالية لدى المممثلة بورجو بيريجيك التي تؤدي شخصية فاطمة يلماز، فقد اتفقت معظم مراجعات العمل على أداءها  المدهش.

تتطور شخصية فاطمة في خضم جرائم القتل التي ترتكبها وفي خضم بحثها عن زوجها الذي يبدو تعلقها به غريبًا في ضوء طريقة معاملته لها، لكنه أمر مفهوم في مجتمع بطريركي تقليدي حيث أن المرأة المقهورة تبحث عن خلاصها في رجلٍ يحميها من باقي الرجال.

تم الاعتماد بكثرة على الفلاش باك، وهو يبدو نابعًا من حالة التروما التي تعيشها فاطمة، حيث يكون الشخص عمليًا في الحاضر، ولكن الماضي يسحبه دومًا، وسبّبت كثرة استخدامات الفلاش باك تشتتًا لدى بعض الجمهور الذين لم يستطيعوا التمييز دومًا إن كان المشهد من الذاكرة أم من الحاضر، لكني مع ذلك أعتقد أنها نجحت في تصوير التشتت الذهني الدائم الذي تعيشه فاطمة، لقد أتعبنا الفلاش باك، كما أتعبها!

وردت توريات لفظية ومجازية لطيفة في العمل لا تخلو من مفارقة وشاعرية مؤلمة، يدركها من يتحدثون اللغة التركية، فمهنة فاطمة التنظيف وفي اللغة التركية يستخدم تعبير التنظيف عسكريًا حين يتم تطهير منطقة من الإرهابيين، وتستخدمه العصابات لتشفير عملية تخلصهم من شخص ما، ويبدو أن فاطمة تنظف ذاكرتها ممن اعتدوا عليها وتنظف حياتها والمجتمع البشري من هذه الكائنات التي تمتص دماء الجميع لتلبية رغباتها وجشعها.

صحيح أن مسلسل “فاطمة” اقتبس الكثير من الأدوات وأساليب الحبكة من أعمال عالمية لكنه نجح إلى حد بعيد في تتريك القصة عبر بناء الشخصيات

في أحد مشاهد المسلسل تظهر فاطمة حين كانت طفلة تحذر صديق طفولتها من الصعود باتجاه الغابة وتناديه خائفة عليه من الضياع: لا تذهب في هذا الطريق! وفاطمة نفسها كبرت وتاهت في طريقها وحين حاولت أن تستعيد نفسها وتعود إلى طريقها، ارتكبت سلسة من جرائم القتل قبل أن ينتهي العمل بمشهد مأساوي يوحي بوجود موسم ثانٍ للمسلسل.

أخيرًا أودّ أن أضيف أن كاتب العمل أوزغور أنورمه قدم أول تجربة له كسيناريست، كما أخرج أول ثلاث حلقات من العمل، صحيح أن هذا العمل اقتبس الكثير من الأدوات وأساليب الحبكة من أعمال عالمية لكنه نجح إلى حد بعيد في تتريك القصة عبر بناء الشخصيات، وفي حُسن انتقاء الحوارات، حيث أن الكثير من الأعمال التركية والعربية تقع في فخ حشر جمل تشعر بأنها كليشيهات مترجمة وغير نابعة من اللغة الأم، والنقطة الأهم أننا حين نفكر بحكاية فاطمة في سياق تركي نجد في العمل إضافة مهمة تتحدث عن معاناة النساء في مجتمع بطريركي يتخبط على تخوم التقليد والحداثة.

فاطمة العمل الثاني الناجح بعد العمل المدهش طيف إسطنبول/Bir Baskadir، ويبدو أن شبكة نتفليكس أتاحت لنا إمكانية مشاهدة لون جديد من المسلسلات التركية يجعلنا نسأل أنفسنا ما هو العمل التركي القادم على منصتها؟

 


عمار عكاش

التاريخ: 11 يونيو 2021










الرابط المختصر: