المسلسل الوثائقي “ستريت فود”.. خلف كل طبق قصة  

ستريت فود

حين وصلت الى كاتماندو عاصمة النيبال حوالي الساعة الواحدة ليلًا، مرّت السيارة في زقاقٍ ضيق، أذكر وجود عربة على جانب الطريق بالقرب منها غاز صغير، عليها عدة أنواع من الاطعمة، من بينها السلطعون؛ لاحقًا، رأيت الكثير من تلك العربات والكثير ممن يبيعون الطعام في الشارع، هذا ما يُدعى “طعام الشارع”. في المجمل هو طعام يؤكل باليد، سريع التحضير، وأرخص مقارنةً بوجبات المطاعم.

تاريخيًا بدأ طعام الشارع في اليونان القديمة، كان مخصصًا للسكان الفقراء، خاصة من لا يملكون مواقد للنار في منازلهم. كما كان شائعًا في القاهرة ومازال حتى يومنا هذا، وتُعتبر الدولة العثمانية أول دولة شرّعت ونظّمت معايير طعام الشارع عام 1502.

ستريت فود/ Street Food وثائقي أمريكي عُرض على نتفليكس لاستكشاف طعام الشارع في مختلف أنحاء العالم، عُرض حتى الآن من السلسلة الوثائقية موسم في قارة آسيا، وآخر في أمريكا اللاتينية. الوثائقي عبارة عن توثيق للطعام، كل حلقة تسلط الضوء على بائع طعام رئيسي بالإضافة إلى ثلاثة بائعين آخرين من ذات المدينة، تغوص في قصصهم، في مراحل تطور الطعام ومدى ارتباط هذه الأطعمة بثقافة البلاد وتأثير الثقافات المختلفة – كالاستعمار – عليه.

يعرض الموسم الأول قصص بائعين من تسع مدن آسيوية، من خلال استضافته لبعض الرائدين في مجال الطبخ، النقد، الأنثروبولوجيا وتاريخ الطعام، بطريقة تجمع بين الحوار التعليمي والتثقيفي على مدار 30 دقيقة

طعام الشارع في آسيا.. “يجب أن تكون قويًا لتخلق تيارك الخاص”

يقدّم الموسم الأول بائعين من تسع مدن آسيوية، يستضيف بعض الرائدين في مجال الطبخ، النقد، الأنثروبولوجيا وتاريخ الطعام، بطريقة تجمع بين الحوار التعليمي والتثقيفي على مدار 30 دقيقة، هي مدة الحلقة الواحدة، تساعد في الحصول على نظرة عميقة لأشهر الأطعمة في الشوارع، حيثُ ركّز المنتجون في الحلقات على الجانب الإنساني، فكان من خلال سرد القصص أمرًا بالغ الأهمية، كما أظهر ثقافة المدينة وصراعاتهم معها.

يتم عرض الحياة المتعِبة لهؤلاء الأشخاص، حيث كان دافعهم الأول اقتصاديًا، بدءًا من صعوبات العيش وصولًا إلى اليأس وإعالة الأسرة، إذ نلاحظ أن معظم البائعين هنّ نساء يؤمنّ مصدر دخل أساسي لعائلاتهنّ، تتراوح أعمارهن من مائة عام وصولًا إلى النساء الشابات.

تبدأ الحلقة الأولى التي صُوِّرت في بانكوك عاصمة تايلاند بموسيقى منعشة ولافتة كُتِب عليها: “نتأسف، وقت الانتظار غير محدد”، وهي الحلقة التي تناولت قصة جاي فاي (73 عامًا)، التي حصلت على شهرتها الدولية بسبب عجة السلطعون التي ابتكرتها، والتي أكسبتها نجمة ميشلان، وهو نظام تقييم للمطاعم يركز على الطبق والمطعم يتألف من ثلاث مستويات ظهر خلال الفترة ما بين عامي 1926 – 1936.

حيث ظهرت معايير نجوم تقييم المطاعم المكوّنة من خمسة، هي: جودة الطعام، دقة التحكم بالنكهة والطهو، تميّز قائمة الطعام، القيمة مقابل السعر، ثبات الطعم بين الزيارات المختلفة، أما بالنسبة لنجوم تقييم المطاعم فهي كما يلي: نجمة واحدة أي ان المطعم جيد جدًا ويستحق الزيارة، نجمتان أي أن المطعم ممتاز ويقدم أطباق فريدة يستحق أن تضمنه في جدول رحلتك، ثلاث نجوم أي أن المطعم استثنائي يقدم تجربة طعام مميزة ويستحق رحلة خاصة به.

بالعودة إلى قصة جاي فاي فإن سبب نجاحها كان تصميمها على إثبات نجاحها في الطهي لوالدتها التي كانت تردد على مسامعها بشكل دائم أنها طاهية فاشلة، تقول شوادي نوالخير مؤلفة كتاب Bangkok’s Top 50 Street Food Stalls بأن بانكوك تتهيأ لتصبح أكثر حداثة، فمجلس المدينة يحاول إخلاء الأرصفة، ويُطلب من العديد من بائعي طعام الشارع الانتقال إلى أماكن أخرى. وهذا ما يؤدي إلى تدمير نظام موجود منذ عقود.

ولعلّ هذا تحديدًا ما يُذكرنا بما حصل في بيروت عندما تم تدمير وسط البلد بشكلٍ مقصود من أجل خلق سوليدير بيروت خاصة بطبقة محددة، فالحالة التي خُلِقت في الشارع أثناء ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول بوجود عربات الطعام حتى ولو كانت محدودة أعطت للمدينة روحًا وأُنسًا، وأعادت الروائح الذكريات للعربات التي كانت تصطف على الكورنيش البحري في التسعينات، ومُنعت منذ فترة بحجّة المظهر اللائق للمدينة!

“يجب أن تكون قويًا لتخلق تيارك الخاص”، بهذه الكلمات تبدأ الحلقة الثانية من قِبل بائع الطعام إيزاكا ياتويو التي صُوِّرت في مدينة أوساكا في اليابان، الذي شهد معاناة في طفولته بعد وفاة والدته، حين كان عمره ستة أعوام، وتحول والده لمدمن كحول مما جعله عنيفًا يضرب أوساكا كل يوم. بحسب المتخصصة في تاريخ الطعام مانا كوماجاي فإن القواعد والنظام مهمين جدًا في اليابان حتى في الطعام، إذ فيما بدأت أكشاك الطعام بالاختفاء بسبب الأنظمة الجديدة المتنوعة، فإن بعض منها اختار التحول إلى مطاعم.

في الحلقة الثالثة التي صُوِّرت في دلهي، عاصمة الهند، نشاهد بطلها مهووسًا بالسينما، التي تطغى فيها المشاعر الإنسانية وتاريخ الشخصيات على أعمالهم، إ ذ إن الطعام في دلهي مزيج من الحضارات التومارية، الراجبوتية، المغولية، والبريطانية، له طعم التاريخ، والكثير الكثير من الناس الذين لا يملكون المطابخ، يعتمدون على طعام الشارع. من أشهر الأطباق في دلهي طبق يُدعى “تشات” من كلمة “تشاتانا” أي لحس الأصابع، وكذلك “سيخ كباب” حيث يُباع في كشك Karim’s الذي افتُتِح في عام 1857 ومازال حتى اليوم، في ذلك العام، انتهى حكم الإمبراطورية المغولية على يد البريطانيين، وكان جميع العاملين في المطبخ عاطلين عن العمل، لذا وجب على بعض هؤلاء الطباخين الملكيين إعالة أنفسهم، فعمد معظمهم إلى بناء أكشاك في دلهي القديمة، وأصبح الطعام الملكي متوفرًا لجميع الناس.

يقول الطاهي ومؤرخ الطعام فو كووك إن الحضارة الصينية أثّرت في الطعام الفيتنامي، ثم جاءت لاحقًا الفرنسية، وبعدها الأمريكية. مشيرًا إلى وجود حوالي مليون شخص يكسبون لقمة عيشهم من البيع في الشارع

أما السيدة مباه ساتينيم التي تبيع طعام الشارع منذ أكثر من خمسين عام، حيثُ ينتظرها بعض الزبائن منذ الساعة الخامسة صباحًا في أندونيسا، نظرًا لشهرتها المكتسبة من إعداد “الجاجان باسار”، وهو أحد أنواع الحلويات التي تعود إلى القرن الثامن عشر، تقول إنها قررت بيع طعام الشارع من أجل أمها – صديقتها المقرّبة التي توفيت بعد أن عرفت بخيانة زوجها لها – لكي تشعر بالسعادة وهي في السماء.

وعلى مقربة من أندونيسيا ننتقل إلى تايوان التي تعود فيها قصة يخنة الماعز إلى سلالة سوي في الصين، التي تقول إن الإمبراطور تناولها قبل 1500 عامًا أملاً منه بالخلود، ويُعتقد أن هذه الوصفة تشفي من العديد من الأمراض، لكن العمل بها خطرٌ جدًا على الصحة، حيث توضع في حفرة وتُدفن في الأرض ويتم تدخينها لمدة ثلاث أيام بلياليها، ويستخدم قناع الغاز خلال العملية، يقول الطاهي إن “العيشة في هذا المكان غير صحية، لا أريد أن يتابع أولادي هذا العمل لأنه يدمّر الجسد، لقد تنشقوا الدخان منذ الصغر”، وهو يبيع من هذه اليخنة أكثر من 5000 صحن في اليوم، بينما ينتظر الناس دورهم لساعتين أو أكثر.

قُدمِ في سيول، عاصمة كوريا الجنوبية، عدد من الثقافات الأجنبية بداية القرن العشرين مما أثّر على حياة الكوريين، فقد وقعت الحرب عام 1950 مما أسفر عن موت الكثير، وزاد عدد الأرامل ما اضطر  الكثير منهنّ للعمل في بيع طعام الشارع، كانت الولايات المتحدة تزوّد كوريا بالطحين، وكانت تشو يوسون بطلة الحلقة تراقب والدتها وتستمتع، أحبّت ملمس الطحين، تقول إنه “يشبه مؤخرة طفلٍ رضيع”، بينما تضيف لمستها الخاصة على الكالغوكسو أي النودلز المقطع بالسكين.

وفقًا للطاهي ومؤرخ الطعام فو كووك (Vo Quoc) فإن الحضارة الصينية أثّرت في الطعام الفيتنامي، ثم جاءت لاحقًا الفرنسية، وبعدها الأمريكية. كما أن حوالي مليون شخص يكسبون لقمة عيشهم من البيع في الشارع. يعتبر الحلزون الأكثر شهرة بين أنواع الطعام في فيتنام، اما في سنغافورة لا يوجد طعام شارع، إنما يوجد مراكز لأكشاك الطعام، توازي مساحة المركز الواحد مساحة ملعب كرة القدم.

الشخصية الرئيسية في الحلقة الثامنة هي عائشة هاشم التي سافرت إلى الولايات المتحدة بهدف دراسة كل ما يتعلق بالمعجنات، إضافة لعملها في أحد المطاعم هناك، حيثُ بقيت إلى أن جائها اتصال من عائلتها يطلبون منها العودة إلى سنغافورة من أجل مساعدتهم في الكشك الخاص بهم، اضطرت للعودة بسبب الوضع السيء لكشك عائلتها، وهو الأمر الذي جعلها حزينة إلى أن تعرّفت على زوجها نظام، الذي بدأ يبتكر أفكارًا لتطوير الكشك، بما في ذلك فرضه على عائلتها استخدام الآلات، مما ساعد على تقليص ساعات التحضير من 10 ساعات إلى ساعتين، تملك اليوم عائشة أربعة أفرع لكشك عائلتها تبيع فيها “البوتوبيرينغ”، وهي نوع من الحلوى تتألف من كعكة أرز مبخّر مليئة بسكر النخيل تُقدّم مع جوز الهند وأوراق الباندان.

أما الحلقة الأخيرة من الموسم الأول فقد صُوِّرت في مقاطعة سيبو في الفيلبين، حيث يعيش ربع سكان المقاطعة تحت خط الفقر، والكثير من الناس لا يملكون أفرانًا أو معدات مطبخ للطهو لذا يعتمدون على باعة طعام الشارع؛ الشخصية الرئيسية في الحلقة هو فلورنسيو اسكاباس، الذي يقوم بصنع حساء من الأنقليس – وهو نوع من أنواع الثعابين المائية – يقول إن البعض يتردد في تناوله، ولكن هذا الحساء وفقًا لاسكاباس “يغيّر أجساد الناس، يعطيهم القوة، ويعزّز الشهوة الجنسية”.

جعل حساء اسكاباس شهرة للمقاطعة، فقد تم تكريمه مع زوجته بسبب إنجاب أزواج للأطفال بعد تناولهم لحساء الأنقليس، حيثُ كان الأزواج قبل تناولهم الحساء لا يستطيعون الإنجاب، لكن كل شيء تغير بعد الإعصار الذي ضرب المقاطعة عام 2013، مما أدى إلى دمار مطعمه وقوارب الصيد، أُصيب اسكاباس بسكتة دماغية نتج عنها شلل في يده، وبعدها بفترة قصيرة توفيت زوجته – حبيبته التي تزوجها في سن الخامسة عشرة – بسكتة قلبية، يقول اسكاباس إن “موتها ترك فجوة في قلبي”، بعد وفاتها لم يستطع اسكاباس إكمال العمل وحده، فاتصل بأولاده يطلب منهم إدارة المطعم.

طعام الشارع في أمريكا اللاتينية.. عليك أن تقاتل في هذا العالم حتى لا تخسر!

يتميز الموسم الثاني بأنه صُوِّر في ستة دول من أمريكا اللاتينية خلال جائحة كورونا العالمية، والشخصيات الرئيسية في خمسة حلقات من أصل حلقاته الستة هنّ نساء يعبرنّ عن تمردهنّ على ثقافة الطبخ التي يهيمن عليها الطهاة الذكور في أمريكا اللاتينية، فالموسم الثاني من السلسلة الوثائقية عمومًا يضفي شعورًا بأن الناس يتمتعون بالمرونة، حتى لو توقف عملهم بسبب الوباء فإنهم سيستمرون بالمحاولة.

تقدم الحلقة الأولى في الموسم الثاني لمحةً عن السجال والجدال الذي نشأ عبر منصات التواصل الاجتماعي بسبب طعام الشارع في الأرجنتين

تبدأ الحلقة الأولى بلقطات لمباراة كرة قدم في ساحة محاطة ببائعي طعام الشارع في بوينس آيرس، عاصمة الأرجنتين، حيثُ يظهر فيها أناس يرقصون، بنيما تُسلّط الحلقة الأولى الضوء على ابتكار أحد الطهاة لعجة الجبن. التصوير السينمائي لجبنة الموتزريلا – وهي بالمناسبة لها جمهور كبير في الأرجنتين –  الذائبة سيجعل معدتك تنبض ولعابك يسيل؛ تقول باتو رودريغيز إنها اضطرت إلى ترك الجامعة من أجل إدارة المطعم، إضافة لمواجهتها التقاليد العائلية عندما كشفت ميولها الجنسية، وهو الأمر الذي جعل عائلتها تشعر بالصدمة في البداية.

تقدم الحلقة الأولى لمحة عن السجال والجدال الذي نشأ عبر منصات التواصل الاجتماعي بسبب طعام الشارع في الأرجنتين لسببين، أولهما كان نتيجة التفسير الذي قدمته مؤلفة كتب الطعام سيلفينا روزمان، بوصفها الأرجنتين “أكثر شبهاً بأوروبا” من دول أمريكا اللاتينية، وتابعت قائلة: “لا يوجد الكثير من السكان الأصليين في الأرجنتين، لكنها في الغالب ثقافة من المهاجرين”.

وأثار هذا التصريح الصادر عن روزمان غضب العديد من المشاهدين، وغرّد أحدهم على تويتر قائلًا: “توقفوا عن مطالبة البيض بشرح الأمور، إنهم جاهلون”، بينما يتعلق السبب الثاني بمزاعم مشابهة مرتبطة بالتهميش لعدم تضمين أي دولة من دول أمريكا الوسطى  في الوثائقي، حيث علّق أحدهم بالقول: “أمريكا الوسطى موجودة، ولدينا طعام شارع”. ساهمت هذه الانتقادات بتحفيز النقاشات حول العنصرية والاستعمار والحفاظ على التقاليد.

يقول أستاذ الأنثروبولوجيا فيلسون دو سوسا الابن في الحلقة الثانية إن مدينة السلفادور في البرازيل تأثرت بعاملين، أولًا التأثر بالاحتلال البرتغالي لها ما بين عامي 1500 – 1822، وثانيًا كان التأثر الأكبر من القارة الأفريقية، حيث استقبلت المدينة أكبر عدد من المستعبَدين الأفارقة في الأمريكيتين، فمثلًا الكاندومبليه، هي ديانة من صنع الأفارقة من أجل الحفاظ على الهوية الأفريقية التي شوهتها العبودية، ويؤدي الطعام دورًا مهمًا في إحياءها لأنهم يتواصلون مع الآلهة من خلال الطعام.

نجد أثرًا للمطبخ الياباني في ليما، عاصمة البيرو، محور الحلقة الرابعة، والذي جاء مع موجة الهجرة إلى البيرو، مما ساهم بولادة مطبخ المهاجرين اليابانيين، أما في بوغوتا، عاصمة كولومبيا، نلاحظ من خلال الكاميرا أنه حتى فن الجرافيتي يملك ارتباطًا بالطعام والتسوق، نلاحظ كذلك وجود ثقافتين طاغيتين على الطعام، هما: الثقافة الكاريبية وثقافة المحيط الهادئ، ومن أشهر الأطباق التي تقدمها بوغوتا، طبق يُعرف بـ “كاسر الفراش”، عبارة عن حساء سمك مع مرق من حليب جوز الهند والكزبرة، النعنع، والزعتر البري، يُدعى كذلك لأن الرجل يشعر بطاقة كبيرة بعد أن يشرب مرقه ويعجز عن التحكم بنفسه في الفراش.

في الحلقة الأخيرة، في لاباز وهي مدينة في بوليفيا، يركز منتجو العمل على نساء “التشوليتا”، وهنّ نساء أصليات من مجموعات عرقية مختلفة من شعب أيمارا من شعوب الهنود الحمر المتواجدين في مناطق الإنديز وكيتشوا من الشعوب الأصلية القديّمة وأعراق أخرى، يتميز النساء بتنانيرهنّ الواسعة، قبعاتهنّ العالية، والملابس الملونة، كنّ يعانينّ من تمييز اجتماعي كبير، ولم يُعدنّ جزءًا من المجتمع، خصوصًا في أماكن العمل، لذا فإن الكثير من نساء التشوليتا يعملنّ في أكشاك طعام الشارع، وهنّ من يحافظنّ على إحياء حضارة المطبخ البوليفي.

في هذه الحلقة تحدثنا إميليانا كوندوري عن الصعوبات التي واجهتها من أجل بيع الطعام في الشارع بعد ملاحقة الشرطة لها لمنعها من نصب كشكها، تقول إميليانا: “كان عليّ إن أقاتل من أجل كشكي، عليك أن تقاتل في هذا العالم وإذا انسحبت.. ستخسر”، تملك إميليانا اليوم أربعة أكشاك في شوارع مختلفة، وفي الوقت الراهن أصبحت الكثير من نساء التشوليتا يشغلنّ وظائف لم يشغلنّها من قبل، عالمات، أستاذات جامعيات، مصارعات، نائبات برلمانيات، وسائقات الحافلات…

مع نهاية الحلقة الأخيرة من الموسم الثاني تبرز من الناحية التقنية في السلسلة الوثائقية بطء حركة الكاميرا، خصيصًا عند تصوير آلية تحضير الطعام حين يُسكب في مقلاة ساخنة، طريقة تحريكه، مع لقطات قريبة من أيدي الطاهيات والطهاة لها دلالتها العمرية، وكذلك  الموسيقى التصويرية التي تتناسب مع المشاهد، إذ أنه عند رواية القصص تميل الموسيقى للحزن والشجن، ويستخدم في كل حلقة الموسيقى المحلية والآلات التراثية التي تعكس ثقافة البلد، موضوع الحلقة.

بينما يفتقر الموسم الأول من السلسلة الوثائقية للمنحى التاريخي الذي يتعمّق بطعام الشارع في المدن التي يتحدث عنها، وخصيصًا أن معظم البائعين كبار في السن يعتمدون على الذاكرة الشفهية، وهو ما يجعلهم يصطدمون بفخ التعميم عن بلدٍ ما أو مطبخ معين؛ قد تكون السلسلة الوثائقية تحاول هنا الاحتفاء بعمل هؤلاء البائعين ومهارتهم واختيارهم دون غيرهم، لكنني أعتقد أن ما يجعله مختلفًا هو شرحه للعلاقة بين الطعام وحياة الأشخاص، حيث يلوح في الأفق الفقر كسمة عامة، ومع ذلك، لم يتم حصر الحلقات باليأس، وهو ما نشاهده فعليًا من قصص الانتصار والمثابرة مع نهاية كل قصة.

قد يكون ستريت فود أول مسلسل وثائقي يُظهر لنا التهديد الذي يواجهه بائعي طعام الشارع في المدن التي يتزايد فيها الاقصاء، كما حصل من حالات إخلاء وملاحقة للباعة في بانكوك على سبيل المثال لا الحصر

إذ أن السلسلة الوثائقية لا تدور فقط عن الطعام، إنما تدور أيضًا عن عدم المساواة في الدخل، عن إثبات الارادة، الشغف بصنع الطعام، الحاجة للبقاء، وعروض للسفر عن الأطعمة التي لا نعرفها والتي هي أطباق مثيرة للذكريات، خاصة أن السفر ليس خيارًا للكثيرين في الوقت الحالي، ولحسن الحظ أن ستريت فود يأخذنا في مغامرات طهي عالمية، يُغرقنا في ثقافة مجتمع وأطباق محببة لبلدان مختلفة، أما محبي السفر والطعام فإنهم سيفكرون حتمًا بالسفر لتجربة جميع – أو على الأقل – الأطعمة التي لفتت انتباههم في هذه التحفة، كما أودّ أن أفعل يومًا ما، قد لا أزور هذه المدن بنسختها الحالية أو من شاهدتهم من طاهيات وطهاة، لكن يومًا ما سأزور ربما نسخة مختلفة وربما هي نفسها.

ربما يبحث بعضنا عن حنينٍ ما يتعلق بطبقٍ معيّن، والبعض الآخر يبحث عن تجربة جديدة ومكان مؤنس من الممكن أن نجدها في طعام الشارع، حيث بإمكان الجميع الانضمام، التقرّب من المدينة والشعور أنهم في مسرح أو حفلة، أو حتى في المنزل، إذ لا يزال طعام الشارع يربط الناس بعضهم ببعض في ظل التكنولوجيا والانغلاق على الذات، لأنه في طعام الشارع يلتقي الناس ويتشاركون نفس الطاولة، باختلاف الأعمال والطبقات الاجتماعية وألوان البشرة، إذ يعطينا طعام الشارع هدية، يعطينا كذلك الفرصة لرواية حكايات حياة النساء والرجال الذين تأسست هذه المدن بفضلهم، حيث خلف كل كشكٍ توجد قصة إنسان.

قد يكون ستريت فود أول مسلسل وثائقي يُظهر لنا التهديد الذي يواجهه بائعي طعام الشارع في المدن التي يتزايد فيها الاقصاء، كما حصل من حالات إخلاء وملاحقة للباعة في بانكوك على سبيل المثال لا الحصر، وهذا يزيد من أهمية السلسلة الوثائقية، لأنه يذكرنا بأهمية حاجة المدن لاحتضان البيع في الشوارع، وهو ما يعيدنا إلى حديث شوادي نوالخير في الحلقة الأولى عندما قالت: “الباعة موجودون لأن الناس يريدونهم هناك، فطعام الشارع يسد فجوات البطالة في المدن، وخاصة بين النساء”.

 


زينب غملوش

التاريخ: 29 أبريل 2021










الرابط المختصر: